شريك الحياة وفوضى الاختيار

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
شريك الحياة وفوضى الاختيار, اليوم الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 12:51 صباحاً

كل واحد منا، في لحظة ما يجد نفسه واقفا أمام سؤال يبدو بسيطا في الظاهر: من اختار شريكا لحياتي؟ لكن هذا السؤال الصغير يفتح وراءه أبوابا كثيرة؛ فاختيار شريك الحياة ليس مجرد إعجاب عابر أو توافق في الاهتمامات، بل رحلة معقدة يتداخل فيها صوت القلب مع حسابات العقل، وتتسلل إليها أصوات المجتمع ومعاييره عن الجمال والنجاح و"الشريك المناسب". في هذه الرحلة يتعلم الإنسان، غالبا بعد شيء من العثرة، أن يميز بين ما يريده هو حقا وما يتوقع أنه يريده، وأن يحدد ما يمكنه التنازل عنه وما لا يستطيع العيش من دونه، وأن يتعامل مع عدم التفضيل والرفض بوصفهما جزءا من الطريق لا إعلانا للفشل. في السطور القادمة نحاول أن نقرأ هذه الرحلة بعيون هادئة، نستكشف طبقاتها، ونفهم ما الذي يحدث لنا ونحن نبحث عمن نقول أمامه مطمئنين: هذا يكفيني.

البداية ترتيب الفوضى

من هذه النقطة يظهر سؤال "الحد الأدنى": ما الجوهر الذي لا أقبل أن يمس في شريك الحياة؟ هل هي منظومة قيم أخلاقية معينة، أم أفق ديني وفكري لا أريد أن أعيش بعيدا عنه، أم مستوى من الاحترام والخضوع أشعر معه أني غير مهدد، أم ربما رفقة تشبهني في هواياتي وطريقة نظري للعالم؟ أم مزيج معقول من هذه العناصر! حين أرسم هذه الدائرة الضيقة حول ما لا أفرط فيه، يمكن لكل شيء خارجها أن يبقى قابلا للأخذ والرد. هنا يتشكل سؤال آخر لا يقل أهمية: إذا كنت أقول إن هذه هي الأشياء التي تعنيني فعلا، فأين يعيش أصحابها؟ وفي أي بيئات يمكن أن ألتقيهم؟

فوضى البحث

قد يكون أثناء الطريق قدر من الخيبة نتيجة لطريقة سيرنا لا لقسوة الطريق نفسه، بدل أن نرهق أنفسنا بمحاولة التواجد في كل ساحة وفرصة، يكفي أحيانا أن نضع ثقتنا في شخص يعرف ما نريده جيدا، ينقل عنا الوصف إلى البيئات التي يحتمل أن نجد فيها من نطلب، فيصير حلقة وصل لا يستهان بها. عندئذ نعيد صياغة المشكلة: هل هي قلة في الأشخاص المناسبين، أم قلة في الجسور التي سمحنا لأنفسنا أن نعبر من خلالها؟

فوضى المعايير

إلى جانب فوضى الأماكن، ثمة فوضى أعمق وأخفى من أن تبصر: ازدواجية المعايير.. نطلب شريكا "منفتحا" ثم نضيق من أول مظهر حقيقي لهذا الانفتاح، قويا وذا شخصية ولكن مطيع في كل ما نراه نحن صوابا، رياضيا من دون أن يفرض نمط عيش منضبطا، صاحب حضور مهني، لكننا نتوقع منه تفرغا عاطفيا. نطلب منه أن يكون جذابا للكل، لكن دون أن يلتفت إليه أحد، ناضجا وواعيا وخبيرا بالحياة، ثم نرفض الاعتراف بأن جزءا من هذا النضج جاء من تجارب سابقة فيها تعثرات واختيارات قد لا تعجبنا بالكامل. نخلط بين صورة تقليدية مريحة وصورة حديثة جذابة، فنرتبك ونحن نحاول تركيب إنسان يجمع بين نقيضين من دون أن ندفع ثمن هذا التركيب في الحوار والتفاوض وتغيير بعض الأدوار.

الاستخارة وفوضى الذهن

بعد بذل ما في وسعنا من تفكير وحركة، تأتي لحظة مختلفة لا علاقة لها بالمنطق وحده: الاستخارة. ليست طلبا لعقد خارق يلغي حريتنا، بل طريقة لقول: فعلت ما أستطيع، وأنا مستعد الآن لأن أرضى بما يأتي، فلا أترك باب الذهن مفتوحا للأفكار الزائدة والتردد الذي لا ينتهي.

من فوضى الشخص المثالي إلى تواضع الشخص الكافي

في النهاية، لا يبدو اختيار شريك الحياة امتحانا فيه إصابة الهدف من المرة الأولى بقدر ما هو استعداد للدخول في المعترك نفسه. التجربة، مهما كانت قصيرة أو غير مكتملة، تقول لنا شيئا عن ذواتنا: عن ما نحتمل وما لا نطيق، عن الهشاشات التي لم نرها إلا في احتكاكنا بالآخر، وعن الصور المثالية التي تبدأ في الذوبان عندما نصطدم بواقع إنسان من لحم ودم. قد تنتهي علاقة واحدة بالاستمرار، وأخرى بالانفصال، لكنهما معا يضيفان طبقة من الفهم إذا أحسنا القراءة. ونتقدم باتجاه فكرة أكثر تواضعا وأكثر واقعية: "الشخص الكافي"، الذي نستطيع معه أن نصنع شيئا من السكينة، لا لأن كل شيء فيه كما أردناه منذ البداية، بل لأن العيش معه يبدو ممكنا وعاديا وجميلا في الوقت نفسه، من دون بطولة ولا دراما زائدة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق