نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المرونة أم الصلابة؟ إعادة هندسة الوعي القيادي في عصر التحولات, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 05:31 صباحاً
في مشهد الاقتصاد العالمي المعاصر، حيث تتسارع دورات التغيير وتتداخل الأسواق بعضها ببعض، لم تعد التساؤلات التقليدية حول آليات «الصمود» كافية لضمان البقاء. لقد تجاوزنا مرحلة البحث عن الاستقرار النسبي لنقف أمام تحد وجودي واستراتيجي أعمق «كيف تمتلك منظماتنا القدرة على إعادة التموضع والنهوض المستمر في بيئة لا تعرف السكون؟». نحن نعمل اليوم ضمن منظومة عالمية تتسم بالتعقيد واللايقين؛ حيث تتقاطع التحولات التقنية الجذرية مع المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية، مما يجعل «المرونة» تنتقل من خانة المهارات الناعمة لتصبح ضرورة تشغيلية حتمية، وشرطا أساسيا للاستدامة.
وعند تفكيك ثنائية (الصلابة والمرونة)، نجد أن الرهان القديم على «الصلابة» والثبات المؤسسي - رغم أهميته تاريخيا في حفظ المكتسبات - قد بات يشكل خطرا استراتيجيا في بيئات العمل الديناميكية. فالصلابة التي تمنح القادة شعورا مؤقتا بالسيطرة، غالبا ما تحجب عنهم رؤية التحولات القادمة، وتجعل المنظمات رهينة لنماذج عمل سابقة لم تعد تملك صلاحية الاستمرار. هذا الجمود يحول المؤسسات تدريجيا إلى كيانات تعاني مما يمكن تسميته بـ«الهشاشة المؤجلة»؛ حيث تبدو متماسكة الهيكل من الخارج، بينما تتآكل قدرتها التنافسية من الداخل لعدم قدرتها على مجاراة إيقاع العصر ولغته الجديدة.
وهنا يحضرني قول المفكر ألفين توفلر «إن الأميين في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يقرؤون ويكتبون، بل أولئك الذين لا يستطيعون التعلم، ونبذ ما تعلموه، وإعادة التعلم من جديد». هذا الاقتباس يلخص جوهر «المرونة» التي نقصدها؛ فهي ليست مجرد رد فعل دفاعي وقت الأزمات، بل هي «رشاقة فكرية» وقدرة استباقية على التخلي عن المسلمات القديمة لصالح فرص المستقبل، وتطوير «كفاءة متأصلة» للمؤسسة تمكنها من التكيف السريع مع المعطيات المستحدثة.
ويكتسب هذا المفهوم أهمية استثنائية عند إسقاطه بتمعن على المشهد السعودي الراهن، الذي يعيش حراكا غير مسبوق تحت مظلة رؤية 2030. فالمملكة اليوم لا تعيد فقط ترتيب أوراقها الاقتصادية، بل تعيد صياغة مفهوم «العمل المؤسسي» برمته. التحول الجريء نحو التخصيص وبرامج الاستدامة المالية، وإعادة حوكمة القطاعات الحيوية، كلها مؤشرات تنقلنا من «بيروقراطية الاستقرار» إلى «ديناميكية السوق والكفاءة».
وفي هذا السياق الوطني المتسارع، تواجه المنظمات اختبارا حقيقيا؛ فالاضطراب الذي قد تشهده بعض المؤسسات اليوم نتيجة إعادة الهيكلة وتغيير نماذج التشغيل، ليس مؤشرا على الخلل، بل هو دلالة صحية على الانتقال نحو النضج المؤسسي. وعليه نجد أن القائد السعودي اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بتبني عقلية مرنة تدرك أن الأمان الوظيفي والمؤسسي لم يعد يكمن في الثبات، بل في القدرة على المنافسة وخلق القيمة.
إننا، ومن خلال موقعنا في قلب هذا الحراك الوطني، ننظر للمستقبل بعين التفاؤل والمسؤولية. نحن أمام فرصة لإعادة تعريف القيادة السعودية لتكون نموذجا عالميا يجمع بين الذكاء التقني والحكمة الإنسانية. نموذج لا يكتفي بإدارة الأزمات، بل يسبقها، ويبني ثقافة مؤسسية تحتفي بالتجريب المدروس، وتنظر للمتغيرات كفرص للنمو لا كتهديدات للاستقرار. فالصلابة قد تحفظ الإرث، لكن المرونة هي الأداة الوحيدة القادرة على ضمان المستقبل واقتناص فرصه الكبرى.
وفي خضم هذا التحول، دعونا نطرح تساؤلات تفتح نوافذ جديدة للتفكير:
إذا كانت التغيرات المتسارعة التي نعيشها اليوم هي اللغة الجديدة للعالم، فهل نملك القاموس المناسب لترجمتها إلى فرص استثمارية، أم ما زلنا نستخدم مفردات الأمس؟
في رحلة التحول نحو الكفاءة، هل نركز جهودنا فقط على ترميم الهياكل القديمة، أم نملك الجرأة لتخيل معمار مؤسسي مختلف كليا لم يكن ممكنا من قبل؟
ماذا لو كان عدم اليقين الذي يقلقنا، هو في الحقيقة المساحة البيضاء التي تنتظر منا رسم ملامح نجاحنا القادم بحرية أكبر؟


















0 تعليق