إدراك مجتمعي متفاوت للعدالة الرقمية

إدراك مجتمعي متفاوت للعدالة الرقمية
إدراك مجتمعي متفاوت للعدالة الرقمية

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إدراك مجتمعي متفاوت للعدالة الرقمية, اليوم الأحد 13 يوليو 2025 11:34 مساءً

في زمنٍ تتسارع فيه الخطى نحو الرقمنة، لم تعد العدالة تُقاس بما يُقال في القاعات، بل بما يُنجز في المنصات. تحولت المراجعة من باب المحكمة إلى نافذة رقمية، وغيرت التقنية وجه النظام القضائي، لا استبدالا للإنسان، بل امتداد لوعيه. ورغم هذه القفزة، يظل الإدراك المجتمعي للعدالة الرقمية متباينا، يراوح بين الثقة والريبة، بين الاحتفاء والنقد.

هذا التفاوت ليس عيبا اجتماعيا، بل نتيجة طبيعية للتحولات المفاجئة. فالمجتمع ليس قالبا واحدا، بل أطياف من التجربة والفهم. بعضهم يرى في العدالة الرقمية تقدما حقيقيا، يختصر الوقت ويقلل التكاليف، ويمنح المتقاضي أدوات متابعة ذكية. وآخرون لا يزالون يتعاملون معها بتحفظ، ويشعرون أنها أزاحت عنهم الطمأنينة التي كانوا يجدونها في التعامل المباشر مع المحكمة، أو أنها غيرت ملامح العدالة التي اعتادوا عليها، ولدينا أربعة وقفات كالتالي:

أولا: الإدراك ليس مجرد معرفة بوجود خدمة الكترونية، بل هو وعي بوظيفتها، وقدرتها، وحدودها. حين يدرك المواطن أن العدالة الرقمية لا تعني غياب القاضي، بل تسهيل الوصول إليه؛ وأن المنصة ليست بديلا عن القانون، بل وسيلة لتمكينه، فإن العلاقة تبدأ بالتوازن، وتبدأ الثقة بالنمو.

وإن الإدراك السليم ينبني على ثلاثة عناصر: تجربة ناجحة، تواصل شفاف، ووضوح في المآلات. فإن غاب أحد هذه العناصر، عاد الإدراك إلى منطق التخوف أو التعميم، وهذا ما يُحدث التفاوت المجتمعي.

ثانيا: نحن أمام واقع متنوع في التركيبة الاجتماعية: كبار في السن اعتادوا الوثيقة الورقية، شباب ينسجمون مع كل ما يُنجز بضغطة زر، شرائح تعليمية تختلف في استيعاب المصطلحات، وفوارق في الوصول إلى التقنية بين المدن والمناطق النائية. العدالة الرقمية، إذًا، لا يمكن أن تُحاك بثوب واحد لجميع الناس، بل ينبغي أن تُراعي تعدد مستويات التلقي.

كما أن التحول الرقمي في مرفق العدالة لا يكفي أن يكون موجودا، بل يجب أن يكون مفهوما ومؤمنا به. وهنا يأتي الدور المجتمعي: في الإعلام، التعليم، المبادرات التطوعية، لزرع الثقة لا فقط في المنصة، بل في القيمة التي تقدمها.

ثالثا: التفاوت في الثقة بالعدالة الرقمية ليس فجوة في النظام، بل علامة على ضرورة العمل على جسر الفهم. قد يشتكي أحدهم من تأخر الخدمة، بينما الآخر يعتبرها منقذة. مصدر هذا التفاوت غالبا في التوقع، لا في الخدمة ذاتها. فالمواطن الذي يحمل النظام الرقمي ما يفوق قدرته، سيتأذى حين يُخيب ظنه، والمواطن الذي لا يجربه أصلا، سيفوت فرصة إدراك ما تحقق فيه.

والواجب ألا نتجاهل التفاوت، بل أن ندرسه، ونُحسن التجربة حتى تصبح الثقة أكثر تجانسا.

رابعا: العدالة الرقمية ليست جهازا جامدا، بل منظومة تُبنى من نص النظام، وواجهة التقنية، وتوقعات المستفيد، واستيعاب القاضي. هي ليست نهاية العدل، بل أداة تعبير حديثة عنه. لا تنجح لأنها رقمية فقط، بل لأنها أقرب إلى الناس، أو لأن الناس شعروا بأنها قللت عناء السفر والتكلفة.

إن العدالة الرقمية ستنجح حين ندركها كما هي، لا كما نتوهمها. وسينضج المجتمع حين يُقاس على فهمه لها، لا على ردات فعله تجاهها. وفي المنتصف، هناك مسؤولية جماعية لردم هذا التفاوت... بالحوار، بالتجربة، وبالزمن.

ختاما: إن العدالة الرقمية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة تُقوم بها المعاملة، وتُختبر بها الثقة. وكل تفاوت في إدراكها ليس نقصا في المجتمع، بل نداء للتفهم والتقريب. ولئن تفاوتت الأفهام، فالرسالة واحدة: التقنية لا تُنصف وحدها، ما لم يُنصفها وعي الناس بها.

رسالة «من جهل شيئا عاداه، ومن فهمه أنصفه».

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق المبادرة السعودية لحماية الطفل في الفضاء السيبراني: قراءة تحليلية في رؤية الأمير محمد بن سلمان
التالى الأدوار السعودية الخفية وإفشال ريفيرا الشرق